بقلم / دينا عبد القادر الحلو
مرت سنوات العمر سريعًا وفجأة وبدون سابق إنذار وجد نفسه بجلس في حفلة تكريمه نظرًا لوصوله لسن – ربيع العمر سن المعاش- كانت مشاعر الفرحة التي كان يشعر بها وسط زملائه الذين يحتفون به في جو من الألفة والسعادة والحميمية يشوبها غصة من الحزن والألم نظرا لأنه بعد أربعين سنة من العمل المتواصل كمفتش للسكك الحديدية -سوف يتقاعد ولن يذهب لعمله مجددًا ولن يقابل زملائه وسوف يظل طوال اليوم جالسًا في بيته بدون عمل!! وبعد انتهاء الحفل عاد لبيته وجلس وحيدًا يفكر ماذا سيفعل في حياته الجديدة بعد المعاش!! فلقد كان أرملًا-رحلت زوجته عنه منذ سنوات وتركته وحيدًا ولم يكن لديهما أطفال ؛ولم يتزوج بعد وفاة زوجته التي كان يحبها ومتعلقًا بها أشد التعلق؛ فماذا سيفعل في هذا الوقت الطويل بلا عمل وبلا زوجة ولا أبناء ولا احفاد!! كان أحيانًا يركب القطار يسلي نفسه داخله فلم يستطع أن ينسى حبه وتعلقه بالسكة الحديد وقطاراتها التي عمل بها أكثر من أربعين عاما ؛ وكان أحيانا يذهب للمقهى يجلس فيها ويسري عنه نفسه مع زملائه ؛ وفي يوم من الأيام اقترح عليه أحد أصدقائه أن يقوم بتحويل شقته إلى بنسيون صغير ؛فلقد كانت شقته ذات مساحة كبيرة على الطراز القديم؛ وبالفعل راقت له الفكرة وسعى إلى تحقيقها على الفور وذهب لشراء احتياجات البنسيون من عدد اضافي من الأثاث و المفروشات وجاء بسيدة من أصل يوناني -كان لديها مطعم وتركت العمل به- لتعمل لديه مديرة للبنسيون وإعداد الطعام واختيار النزلاء المناسبين؛ ووجد ذات يوم رجلا من الريف في المسجد الذي يصلي به لا مأوي له ولا عمل فعرض عليه العمل لديه في البنسيون وبالفعل أخذه الي البنسيون ليعمل مع المديرة ويساعدها في شراء الطلبات وتنظيف المكان؛ وهكذا بدأت الفكرة تنجح ؛وبدأ النزلاء يتوافدون على المكان لاستئجار حجرة بالبنسيون ؛ فهذه فتاة في مقتبل العمل-حاصلة على دبلوم السكرتارية- أتت من الريف تطرق أبواب المدينة لكى تبحث عن عمل؛ وآخر حضر أيضا من قرية من قرى مصر، جاء إلى المحروسة للبحث عن فرصة لتحقيق الذات والشهرة ، فهو كاتب مسرحي يؤلف مسرحيات ويتمنى أن يجد من يكتشفه لعرض مؤلفاته على المسرح؛ وسيدة ثالثة جاءت تسكن في البنسيون مع طفلها الصغير-تعمل مهندسة وحضرت للقاهرة لكى تبحث عن زوجها المفقود الذي خرج ولم يعد ؛ وهكذا نجد صاحب قصتنا- الذي كان يئن من الوحدة ويشعر بالضجر والملل والحزن بعد المعاش- فجأة أصبح محاطًا بعدد من النزلاء ، ولكل نزيل قصة وحكاية وأمل وحلم ؛فانخرط في مشاكلهم وآمالهم وأحلامهم وآلامهم؛ وأصبح مشغولا طوال اليوم مع نزلاء البنسيون؛ وشقته التي كانت باردة فارغة لا حياة فيها ولا بشر سواه؛ أصبحت تضج بالحياة والأمل والضحك والقصص والحكايات؛ يجتمعون يوميًا على مائدة الافطار والغداء والعشاء ، ويحتسون سويًا أقداح الشاي والقهوة أمام شاشة التلفاز؛ بطل القصة اصبح الآن يشعر بالمسؤولية والواجب نحو نزلاء فندقه الصغير ؛ كان لهم الاب الروحي والمستشار لمشاكلهم وقصصهم؛ فكان ينزل كل يوم مع المهندسة يبحث معها عن زوجها المهندس الهارب من عمله ومن أسرته ،وبالفعل في يوم من الأيام وجده اخيرًا هائمًا على وجه ؛يرتدى ملابس متسخة ويقف في الشارع ينظم المرور تارة ،وتارة يعمل في محجر ويحمل الرمل من مكان لأخر ،يعيش اليوم بيومه ،لا يتحمل أي مسؤولية إلا قوت يومه ، وذلك بعد خذلان حدث له في عمله جعله ينهار نفسيًا ويهرب من عمله تاركًا أسرته ، ليهيم على وجه في الطرق والشوارع؛ وبالفعل نجح الأب الروحي في إعادته للبنسيون ليرى زوجته وابنه ،ولكن سرعان ما يهرب مجددًا رافضًا أن يتحمل مسؤولية أسرته ،حتى بعد أن صارحته زوجته بمرضها الخطير ،وقصر فترة وجودها في الحياة!! وانها تريده أن يرجع ليربي ابنه بعد رحيلها ، إلا أنه لم يمتثل وعاد من حيث أتى!!! ؛ أما الفتاة الشابة سعى في توظيفها في شركة سياحة ولكن سرعان ما اكتشفوا انها شركة نصب واحتيال فتركتها؛ وبعد ذلك وجد لها عملا لدى محامي ولكن في النهاية يكتشف انها عصاية ويبلغون الشرطة عنها ؛ أما المؤلف فوقع في البداية في براثن سيدة ثرية لعوب تريد استغلاله والزواج منه ليكون محللا لها لكى تعود لزوجها الاول مع حرمة هذا الأمر شرعًا؛ فيصدقها لأنها اغرته انها سوف تساعده للوصول لرجال الفن لتحقيق ما يصبو إليه من شهرة في مجال التأليف والدراما والمسرح ؛ وهكذا نرى البنسيون يضم شخصيات مختلفة ولكل شخصية قصة وحلم وأمل؛ ويجد الاب الروحي لهم ضالته في العيش معهم والانخراط في حياتهم اليومية ؛ وتنمو قصة حب بين المؤلف والفتاة الشابة ويشجعها الاب الروحي ويباركها بعد أن يترك المؤلف السيدة اللعوب وينفصل عنها بعد أن يدرك استغلالها له ؛ وفي نهاية القصة يقرر المؤلف أن يتزوج الفتاة الجميلة ثم يعودان معًا للريف لزراعة الأرض وتربية الطيور والكتابة أيضا بعد أن أدرك المؤلف أن الطريق ليس ممهدًا بالورود والزهور في المدينة لكي يحقق شهرته وأحلامه في العاصمة بعد أن طرق عدة أبواب ولكن باءت محاولاته بالفشل.
وفي النهاية وبعد رحيل الزوجين يجد صاحب قصتنا نفسه مسؤولا عن السيدة المهندسة المريضة وعن ابنها الصغير، ويقرر عدم التخلي عنهم بعد فرار الزوج ؛ وأصبح لها الاب والجد المسؤول عنهما خاصة بعد تعرض الام لوعكة صحية ذهبت على إثرها للمستشفى ، وهكذا يشاء الله أن يهب لبطل قصتنا النبيل طفل صغير – يرعاه ويربيه ويهتم بأموره – بعد أن كان محرومًا من نعمة الأطفال!!
كانت هذه أحداث قصة مسلسل “حلم السفر”-أحد المسلسلات الراقية الهادفة “المنسية” التي لم يتم عرضها كثيرًا على شاشة التلفاز مثل باقي المسلسلات التي سأمنا منها ومللنا من كثرة عرضها -المسلسل بطولة محمود مرسي وكان هو الاب الروحي لبنسيون السعادة الذي ضم فيه هذه الشخصيات التي عاش معها وانخرط في مشاكلهم وأحلامهم!!
وهكذا نستوحى من هذه القصة درسًا هامًا أن حياة الإنسان لا تنتهى بتقاعده ووصوله لسن المعاش ، بل عليه أن يجد لنفسه عملاً جديدًا وهدفًا جديدًا وأملا جديدًا لنفسه و حلمًا يسعى لتحقيقه او أسرة ينخرط معها في حل مشكلاتها ،فالفراغ مغبة (حياة بلا عمل عبء لا يحتمل).
غبار العمل، ولا زعفران البطالة.
، والوحدة أمر لا يطاق، والعمل يحمي الانسان من الشرور والفساد والرذيلة!!
البطالة أم الرذائل
كما تقدم لنا القصة درسًا هامًا أيضا أن النزوح من القرية للمدينة وحلم السفر ليس دائمًا طريقًا مفروشًا مكللًا بالنجاح، وليس ممهدًا بأكاليل الزهور، بل أحيانًا كثيرة يكون الريف أجمل وأفضل حيث الحب والخير والأرض والجمال.
نحن في أشد الحاجة الى مثل هذه النوعية من القصص والمسلسلات الهادفة التي رغم مرور أكثر من ثلاثين عامًا على عرضها، الا أنها استوقفتني لمشاهدتها عبر اليوتيوب، مسلسل لا يحتوى على لفظًا خادشًا ، ولا مشاهد خارجة تحرج الأسرة المصرية، اضافة إلى أنه يقدم فكرة جميلة وجديدة وفكر راقي هادف نفتقده في هذه الأيام!!!